القصاصون
كثير منّا اطلع على كتاب من كتب التاريخ القديمة، فاصطدم برواية خيالية، أو شخصية أسطورية يرويها أحد القصّاصين، فلم يستطع الوقوف على صدقها.
فلم يفرق القدماء بين المؤرخ والقصاص، فقد كان لديهم بعض القصاصين الذين يجمعون الناس حولهم، فيقصّ عليهم ما وصله من روايات عن الأقدمين، وعنه يرويها الناس بعضهم لبعض، فتتوارث الأجيال قصصًا لا يعرفون مصدرها.
وكان بعض هؤلاء القصَّاصين كلما أوغل في الغرائب كلما اشتاق الناس لسماعه، فكان بعضهم يخلط في قصصه من الخيالات ما يشد أسماع الناس.
تصديق الناس للقصاصين
نظرا لانتشار السِـحْـر والـشّـعْـوَذَة قبل ظهور الإسلام وبعثة الرسول (سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم)، كان الناس لا يستغربون ما يقص عليهم ذلك القصّاص لِما يرون في طبيعة أحوالهم من الـسّـحـرة. فالحياة حولهم مليئة بالغرائب، فلا عجب أن يصدقوا ذلك القصاص فيما يزعم.
الأمور التي ساعدت القصاصين
1- ندرة القُراء والكتب
كانت الأمية هي الشائعة لدى المجتمعات، فإذا ما تحدث القصّاص وأتى بالعجائب لن يستطيع أحد أن يسأله في أي كتاب قرأ ذلك الأمر؟ أو اطلعنا على كتابك الذي تقرأ منه؟ فهو يسرح بخياله في مأمن من تلك التساؤلات.
2- جهل الناس
جمهور القصَّاص هم العوام والجهلة في كل زمان ومكان.
خرج وفد الحج من إحدى البلدان قاصدًا المدينة في عهد الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- وكان وقتا يشع فيه نور الحديث والفقه، وكان في ذلك الوفد رجل واعظ قصاص، فكلما استراح الوفد وقف يعظهم ويقصّ عليهم حتى أتوا المدينة، وجلس في المسجد النبوي وراح يجمع الناس حوله ويقص عليهم، فرماه صبيان المدينة بالحجارة حتى أخرجوه، فلم يجد الجُمهورَ الجاهل الذي يستمع إليه، إذ انصرف الناس إلى الفقهاء والمحدثين.
3- القصاص يستغل حب الناس للغرائب
فُطر الناس على حبهم لسماع كل ما هو غريب حتى وإن استبعدته عقولهم لِما يستمعون به من فكاهة في ثنايا القصة، أو إسقاطات على من يكرهونهم ممن يحيطون بهم.
4- الفراغ
لقد كانت وسائل الترفيه محدودة في القديم بين سباق خيل أو رمي، وتلك وسائل بدنية يهرب منها الكسالى، ولا يرغب فيها إلا القليل. أما عامة الناس، فإنهم يريدون ملأ فراغهم بأساطير القصاصين.
5- القصّاصون والفعل مبني للمجهول
يُعد القاص من أكثر الناس إلمامًا بالأفعال المبنية للمجهول، فإن حديثهم دائمًا يبدأ بـ ( يُروى أن، يُحكى أن )، وما دام قد أسند الفعل للمجهول، فلا تسأل عن الفاعل.
لماذا اشتملت كتب التاريخ على غرائب القصص؟
لقد كان الفقهاء والمحدثون يتشددون في رواياتهم فلا يروون قصة إلا بعد الوقوف على إسنادها وعدالة رُواتِها؛ لأن الأمر مرتبط بأحكام فقهية وشرائع تخص الأموال والأعراض. فلا يجوز بناء حكم فقهي على قصة وردت في حديث إلا بعد بيان عدالة روايتها.
أما كتب التاريخ فلم يشترط المؤرخون فيها عدالة الرواة، بل يكتفي بذلك الإسناد. وكان وقتهم وقت علم ورواية، فكان المؤلف يكتفي بالإسناد لعلم أن القارئ يستطيع أن يميز عدالة ما يروى عن المؤلف، وهذا ما حدث في الكثير من كتب التاريخ الإسلامي، فهذا كتاب البداية والنهاية للإمام "ابن كثير"، وهذا كتاب تاريخ الأمم والملوك للإمام "الطبري".
تجد فيهما عددًا كبيرًا من القَصَص والأساطير التي رواها من الإسرائيليات، وعمّن لديهم ضعف في الرواية، وحسبهم في هذا أنهم يذكرون الإسناد، لكن السؤال: لماذا لم يتناول علماء الجـرح التعديل تلك الكتب كما فعلوا مع صحيح السنة؟!
والجواب على ذلك أن القصة التاريخية الواردة كثيرة جدًّا وتفوق الحصر، وعلماء الجـرح التعديل يضنون بجهدهم أن يبذلوه في قصة لا يترتب عليها حكم، فإن الرواية الواحدة قد تشتمل على ثلاثة أو أربعة أو خمسة من الرواة، وقد يمضي العالم يومه كله في محض رواية، وقد يقف على أحد رُوَاتها فلا يستطيع أن يُبدي فيه رأيًا، لهذا بقيت تلك الكتب على ما فيها من غرائب.